
رسالة تأطيرية ملكية
لا شك أن بلاغ الديوان الملكي، بالإضافة إلى وظيفته التواصلية مع الفاعلين السياسيين المعنيين به، شكل رسالة تأطيرية ترسم الحدود ودوائر الشرعية وتضع النقاط على الحروف، في علاقة الأحزاب السياسية وباقي الفاعلين المؤسساتيين بالعلاقات الدولية للمملكة، خصوصا في ظل السياق الجيوستراتيجي الصعب الذي يمر منه العالم بأسره.
ومن هذا المنطلق، أُسِّست الرسالة التأطيرية الملكية، في مخاطبة حزب العدالة والتنمية وغيره من الأحزاب السياسية، على أربعة مرتكزات كبرى، ربما تتجاوز المجال الديبلوماسي إلى باقي المجالات المحفوظة للملك بأحكام الدستور والدين والتاريخ.
أولا، أن الدبلوماسية المغربية مؤطرة بالدستور ومبنية على الثوابت الوطنية والمصالح العليا للوطن وبالتوافقات المجتمعية مع القوى الحية، وبالتالي فهي سياسة دولة وليست سياسة وزير. ومن ثم فالرسالة التأطيرية تهدف إلى رسم حدود الشرعية بين ما يدخل ضمن اختصاصات رئيس الدولة وما هو مخول لباقي الفاعلين. وهنا التذكير بمجالات الشرعية أمر ضروري لأن في طياته تذكيرا بما يمكن أن يترتب عليه من إجراءات وقرارات للحد من تصاعد نبرة الخطاب السياسوي والهوياتي، الذي يشوش على السياسة الخارجية المغربية، وما ينطوي عليه هذا النمط من الخطاب من مفردات وأشكال التحريض والتعبئة ضد المصالح الوطنية في زمن شديد التعقيد ومليء بالمخاطر.
ثانيا، أن الدبلوماسية المغربية سياسة استراتيجية عابرة لزمن الحكومات والبرلمانات، وتتجاوز الانتدابات الانتخابية، لذلك فهي ليست موضوعا للاستغلال السياسي البشع من أي كان أو بندا في أجندة حزبية داخلية أو ورقة في حفلة المزايدات والسجالات والمناكفات الانتخابية، في ما بين الأحزاب السياسية لتسجيل النقاط والحشد. وهي بدورها رسالة رد على نوعية المفردات والعبارات واللغة المستخدمة لحزب العدالة والتنمية وكل من يقتفي منهجه، والتي لا تمتّ إلى الواقعية والعقلانية والرؤية المسؤولة والوطنية بصلة، بل تجافي الواقع، وتحاكي الغرائز الانتخابية من كل حدب وصوب.
ثالثا، أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تكون موضوع ابتزاز من قبل فاعلين داخليين أو خارجيين، فالملك محمد السادس واجه بالصرامة المطلوبة كل أشكال الابتزاز الخارجي، التي تحاول أن تفرض تصورها وتملي مواقفها على السياسة الخارجية المغربية، وهو غير مستعد للتساهل مع حملات الابتزاز الداخلي التي يقودها حزب بعينه لاسترداد بكارته السياسية، وتحويل السياسة الخارجية للتكسب السياسي والضغط على المؤسسات الدستورية للحصول على امتيازات انتخابية غير مستحقة. فابتزاز الدولة المغربية، وفق الرسالة التأطيرية الملكية، سواء كان داخليا أو خارجيا هو واحد، مادام أنه يتوخى تحقيق مصالح حزب أو دولة بأساليب غير مشروعة، ويحاول التأثير على الدولة المغربية عن طريق الضغط والإكراه وإظهار الدولة بأنها ضد قيم المجتمع.
رابعا، أن صناعة السياسة الخارجية المغربية ليست نزهة في حديقة، بل هي عملية شاقة ودقيقة، وفق معطيات حساسة ومحكومة بالظرفية الدولية شديدة التعقيد. وبالتالي فلا يمكن لحزب يؤسس مواقفه على معطيات من مواقع التواصل الاجتماعي ومصادر شبه إعلامية أن يؤسس موقفا يرتفع إلى درجة الوعي السياسي والوطني الذي تقتضيه المصالح العليا للوطن، في زمن مليء بالمفاجآت والمؤامرات والدسائس. وما لم يستوعبه حزب العدالة والتنمية، وغيره من الأحزاب، أننا في زمن يرتبط بسياقات متناقضة ومخاطر آتية من كل حدب وصوب، وهو ما يؤدي إلى تصاعد طلب المغرب على التحالفات والشراكات الاستراتيجية الجديدة، بهدف صيانة مصالحه والمشاركة في التوازنات الجيوسياسية القادمة. وهذا لن يتأتى في ظل حملة التشويش والتضليل الدبلوماسي التي يمكن أن يقوم بها حزب من الداخل بعيد كل البعد عن المعطيات الدقيقة.