
النكبة الفلسطينية الكبرى
الحرب الحقيقية التي تشنها إسرائيل حاليا لا تتمثل في المواجهة مع كتائب القسام، بالدرجة الرئيسية، بل هي حرفيا مع الغزيين جميعا، فالهدف الأول والاستراتيجي لإسرائيل هو القيام بتهجير سكاني كامل وكبير، من المناطق الشمالية لغزة إلى الجنوب، وتصغير المساحة الجغرافية للقطاع، بداية، ثم في المرحلة التالية دفع السكان إلى صحراء سيناء.
منذ البداية، سعت ماكينة الحرب الإسرائيلية إلى تدمير كامل للبنية التحتية وقتل أكبر عدد من المدنيين قصْداً، وليس عرضا، بغرض نشر الرعب والتخويف ودفع الجميع إلى النزوح والهروب نحو الجنوب، أو ما تسمى «أماكن آمنة». وبالطبع الرسالة الثانية كانت أنه لا يوجد متر مربع واحد آمن، داخل الجغرافيا الفلسطينية، فالمكان الوحيد الآمن هو عبور الحدود المصرية. ولأن هدفا مثل هذا سيبقى تبريره علنا غير ممكن، ولأنه واجه رفضا مصريا أردنيا، منذ البداية، ادعى الأمريكيون والإسرائيليون أن الهدف تغير نحو عزل الشمال عن الجنوب، ودفع الفلسطينيين نحو الجنوب، في منطقة جغرافية محدودة صغيرة معزولة، لكن الهدف الحقيقي يبقى في المرحلة التالية هو التهجير القسري للفلسطينيين، والتخلص منهم نهائيا.
تُستخدم كتائب القسام والأنفاق ذريعة للقول إن التهجير السكاني هو الطريقة الوحيدة لمواجهة المقاومة، وتدمير الأنفاق كافة، وإقامة منطقة عازلة، لكنها حجج واهية، فهذا السيناريو يُخفي الأهداف الحقيقية، لأن الأنفاق موجودة بكل غزة، وهنالك مراوغة أمريكية وتلاعب إعلامي تهربا من الويلات والجرائم الأخلاقية ومن التصاعد الكبير في الغضب بالأوساط الأمريكية، لذلك يتم الحديث عن هدن إنسانية وممرات آمنة لعبور الفلسطينيين، طوعيا، إلى خارج غزة، لكن الحقيقة هنالك تواطؤ في عملية التهجير.
إن الحرب الحقيقية اليوم بغزة هي «حرب المستشفيات»، وستكون هنالك ويلات وجرائم كبرى، لإخلائها بالقوة، وقد بدأت الأمم المتحدة بإنشاء مخيم للنازحين بجنوب غزة، يتسع لثلاثين ألفا، وسيتم تفكيك المستشفيات كافة بشمال غزة، فالاستهداف الحالي على أبواب المستشفيات، وفي محيطها وفي بعض الأقسام، ومعركة الوقود والطاقة والماء والكهرباء وكل شروط الحياة، هو لإجبار الجميع على مغادرة المناطق الشمالية بالقطاع، والانتقال نحو الجنوب مرحليا!
هل ستحتل إسرائيل الشمال، ثم تنسحب، أم ستجعله منطقة معزولة أمنية؟ وماذا عن إعادة الإعمار والجنوب، من سيقبل بإدارة الجنوب المعزول المحاصر المقطع؟ لا توجد إجابة حقيقية لدى الأمريكيين والإسرائيليين عن حقيقة اليوم التالي في غزة، لأنه باختصار لا يوجد مخطط واضح، أو ربما كما يقول ناثان براون، (أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن)، لا يوجد يوم تال، بالمعنى المطروح حاليا، إنما حرب وتهجير كامل من القطاع، بعد تدمير أغلب البنية التحتية وشروط الحياة.
ما يحدث حاليا في غزة أكبر من نكبة الـ1948، وتجاوزت الكارثة الإنسانية حروبا عالمية كبرى. ولا تقف خطة التهجير عند حدود غزة، فمن الواضح أن هنالك نوايا للتيارات اليمينية المتطرفة في إسرائيل إلى سيناريو مماثل في الضفة الغربية، الأمر الذي يعني أهمية أكبر لإسرائيل، لأن التخلص من حركة حماس في غزة يمثل هدفا عسكريا وأمنيا واستعادة لـ«صورة إسرائيل» داخليا وخارجيا، بعدما تهشمت مع «طوفان الأقصى»، لكن الضفة الغربية هي الهدف الأكبر للتخلص من المأزق الاستراتيجي الأكبر، الذي يتمثل في البعد السكاني. والحل الوحيد أمام العقلية الإسرائيلية يتمثل في «الترانسفير»، وهو الأمر الذي لا تعلنه إسرائيل، لكنها تعمل على تحقيقه عاجلا أم آجلا، وتسعى إلى إيجاد الشروط والظروف المناسبة تماما للقيام به.