تضخم في «الشهادات العليا»

ليس من الطبيعي أبدا أن تزداد أعداد الطلبة المغاربة الذين يحصلون على تأشيرات الدراسة في أوروبا، وينقطعون عن الدراسة، أو على الأصح «ينصرفون» عنها إلى البحث عن عمل لجمع أوراق «الأورو» المالية بدل أوراق المحاضرات.

هذه الظاهرة تكشف أن شريحة مهمة من الشباب، اليوم، تتبخر كل طموحاتهم الأكاديمية أمام إغراء البحث عن عمل في أوروبا.

لكن أليس من الجنون تضييع فرصة أكاديمية لصنع مستقبل مهني وعلمي واعد، خصوصا وأن الأمر يتعلق بجامعات دولية ومعاهد مرموقة ولها صيتها الدولي؟

الحقيقة أن أغلب هؤلاء الطلبة، الذين ينقطعون عن الدراسة، لم يكن لديهم منذ البداية أي حس أكاديمي، وإنما وجدوا أن تقديم ملف تأشيرة التعليم في أوروبا هو وسيلتهم الوحيدة للحصول على «الفيزا». إذ يكفي أن تتوفر فيهم الشروط ويدلوا بموافقة معهد في الخارج على تسجيلهم، ويضع أولياء أمورهم مبلغا ماليا في البنك، لكي يحصلوا على التأشيرة.

لو اطلع الجيل الأول من الطلبة المغاربة في الخارج على هذا الواقع، لأصيبوا بالصدمة والارتباك. إذ إن الجيل الأول من المغاربة الذين توجهوا إلى جامعات أوروبا والشرق، كانوا يؤمنون بقداسة العلم، بل تركوا أوروبا بمجرد حصولهم على شهاداتهم العليا وعادوا إلى المغرب، رغم أن البلاد قبل سبعين أو ثمانين سنة كانت تتخبط في مشاكل لا حصر لها، ولم يكن مستقبلها السياسي يعد بأي شيء. إذ كيف يعود طالب مغربي حاصل على إجازة في القانون إلى بلاده، التي لا تتوفر وقتها على أية محكمة مغربية، وما زال قضاتها القدامى يفصلون بين النزاعات تحت الخيام في الأسواق الأسبوعية؟ لكن هؤلاء الخريجين عادوا وقتها لكي يشاركوا في بناء نواة العمل السياسي، وفرضوا أنفسهم على الساحة، وبطبيعة الحال كانوا قد تلقوا وعودا من السياسيين، خصوصا في حزب الاستقلال، لكي يشاركوا في بناء المغرب الجديد.

ذهب خريجون آخرون إلى العراق وسوريا، ودرسوا هناك، وعادوا إلى المغرب فور حصولهم على شهاداتهم الجامعية، رغم أنهم كانوا متأكدين من اعتقالهم فور وصولهم إلى وجدة أو طنجة أو الدار البيضاء، بسبب الأنشطة الطلابية اليسارية. إذ كانت التهمة الموجهة إليهم جاهزة: «الشيوعية». ورغم ذلك عادوا إلى المغرب، بل هناك طلبة مغاربة قدامى تزوجوا أجنبيات وعادوا بهن إلى المغرب.

هذا التغير الحاصل لم يسقط من السماء، وإنما بدأ تدريجيا. وأول ما يجب على الباحثين مباشرته، دراسة هذا التحول الكبير في بنية العقل المغربي الشاب، وانتفاء «القداسة» عن التعليم العالي، ليصبح مجرد تمديد للهروب من البطالة بعد الحصول على الإجازة الجامعية.

هناك آلاف الطلبة المغاربة اليوم، لديهم إجازات جامعية في تخصصات محترمة، وعندما حصلوا عليها ذهبوا إلى مراكز التكوين وحصلوا على شهادات في المحاسبة أو المعلوميات، وعادوا إلى الجامعات وحصلوا على درجة الماستر، ومنهم من بدأ في الاشتغال على الدكتوراه، في انتظار الوظيفة «مع الدولة». ورغم غنى التكوين الذي تلقوه بين المهني والأكاديمي، نادرا ما يفكر أحدهم في اتخاذ مسار مختلف.

موضوع الشهادات العليا في المغرب يشبه ما وقع ويقع للعملات في الدول المنكوبة اقتصاديا. منظر حمل العراقيين أو اللبنانيين، أو في دول أخرى هوت عملتها الرسمية إلى الحضيض، لعربات رزم العملة المحلية لصرفها إلى الدولار، أو لاقتناء الطعام لأسرهم، صار عاديا في نشرات الأخبار.

موضوع هذا «التضخم» في الشهادات المغربية يشبه كثيرا ما يحدث في سوق العملة، الفرق يكمن في أن الشهادات لا تشتري «الخضر»، وإلا لرأيت آلاف الخريجين المغاربة يحملون شهاداتهم في العربات لكي يقايضوها بثمن كيلوغرام من السمك، أو شواية في الطريق السيار وكأس شاي.

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى